كتبه/ إبراهيم جاد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي أزمنة الفتن هناك حالة من الإقبال على الدنيا تنتاب جُل القلوب من محاولة استحواذها والسيطرة عليها والقذف إلى أعلى مراتبها وأجل مناصبها -إلا ما رحم ربي-، والبعض منا قلبه معها وعينه عليها ولسانه يلهث بزخارفها وزينتها الفانية، فأفعاله تشهد بذلك وإن لم يتكلم -ولا حول ولا قوة إلا بالله-؛ فلربما يطغى لأجلها، ويتخلى حتى عن أهله لحصولها، ويتقاتل على حُطامها، ولربما تصارع مع المرض نفسه للظفر بها، ناسيًا متغافلًا حقيقتها التي صدع بها كتاب الله -تعالى-: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:64).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- مخبرًا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) أي: الحياة الدائمة الحق التي لا زوال لها، ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد).
بل حقيقتها كذلك، وأي حقيقة لو يعيها العاقلون هي حقيقتها المؤلمة، فهي عرض زائل أو متعة فانية أو لذة حاضرة أو شهوة منقضية أو كأذى خارج، فعن الضّحاك بن سفيان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: (يَا ضَحَّاكُ مَا طَعَامُكَ؟) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اللَّحْمُ وَاللَّبَنُ؟ قَالَ: (ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى مَاذَا؟) قَالَ: إِلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ، قَالَ: (فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ابْنِ آدَمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره).
والحل أن تنظر بنظر المتأمل المتعظ الحَذِر الذي يخشى سطوتها ويعرف حقيقتها؛ فلننظر مثلًا إلى قول الحسن البصري -رحمه الله-: "ما عجبتُ مِن شيءٍ كعجبي من رجل لا يحسب حبَّ الدنيا مِن الكبائر، وايم اللهِ، إنَّ حبها من أكبر الكبائر، وهل تتشعَّب الكبائر إلا مِن أجلها؟ وهل عُبدت الأصنام وعُصي الرحمن إلا مِن حب الدنيا وإيثارها".
فيا معاشر أهل الديانة والالتزام، وأصحاب الهدى ورجال الاتباع لخير سلف... انتبهوا إن كانت كذلك، فانظروا ماذا يتبقى لنا منها من رصيد بعد الممات؟
فلهذا أرادت أن نذكّر بعضنا بعضا بالأثر الحسن بعد الممات التي ربما نغفل عنه أو نستقله أو لا نقدره قدره، أو نضل طريق الوصول إليه، ولعل الله ينفع بها كاتبها أولًا وقارئها وسامعها، ونجاهد فيها أنفسنا وفي نيلها أو حتى الظفر ببعض منها.
من تلك الصور ما هو معلوم محسوس كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) (رواه مسلم).
- فصدقة جارية بنية صافية خالصة لله -تعالى- كوقفٍ أو حفر آبار، أو كفالة أيتام أو بناء مسجد أو كنت سببًا في مصلحة عامة انتفع بها الملايين، وبقيت على مرِّ العصور فسهلت على الناس معايشهم، وعلى أبنائهم مقاصدهم، ووفرت عليهم أموالهم وزاد من اطمئنانهم على بناتهم وأبنائهم؛ فسيبقى الأثر -بإذن الله تعالى-.
- علم يُنتفع به أو مصحف ورثته أو طالب علمته أو علم نشرته، خاصة ونحن في العالم ذات النافذة المفتوحة التي تَرى فيها كل شيء ويُرى عنك كل شيء، فما أعظم أجر -إن شاء الله- مَن صدر مقطعًا أو محاضرة نافعة للمسلمين مثلًا، فبلغ مَن شاهدوها مليون أو أكثر؛ باب خير فُتح لنا من الأجر لم يكن لسابقينا، فافتحوا القنوات على الشبكة العنكبوتية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وادعموا قنواتكم التي تخدم منهجكم.
والغريب العجيب: أن أهل الباطل يدعمون بعضهم بعضًا، وتقاعس بعض أهل المنهج الحق في الدعم والنشر والردود بحق، وبأدب استغلوها في نشر القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وهدي سلفكم، وعلم مشايخكم، فسنموت ويبقى الأثر -بإذن الله تعالى-.
ولد صالح في زمن زاد فيه العقوق وقل مَن تجده يربي ولدًا للآخرة، ويوقفه له بعد الممات، فإذا انشغلنا عن ذلك فقد انشغلنا عن أمر عظيم يرجى نفعه في الحاضرة والآجلة؛ فهو مشروع العمر، وأهم وظيفة في الحياة؛ لأنه إن صُلح الولد فهو بمثابة الطاقة المتجددة لك على مر الأيام، وسيبقى الأثر -بإذن الله تعالى-.
ومنها ما هو معنوي: كجبران خاطرٍ لفقير أو يتيم أو مسكين، أو سعي على الأرامل أو العجزة، أو كبار السن فسيبقى أثرها -بإذن الله-.
كان صاحب المغرب المنصور يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار، وثوب، ورغيف، ورمانة، والقاضي محمد بن علي المروزي، عُرف بالخيّاط؛ لأنه كان يخيط بالليل للأيتام والمساكين، ويعدها صدقة.
- أو وُفقت في الإصلاح بين زوجين متخاصمين فلممت شعث الأسرة أو زرت أختك مثلًا فجبرت خاطرها، أو واصلت الأقارب والأرحام ببشاشة وحب، وطلاقة وجه ونفس راضية، فأسرت قلوبهم بالإحسان فمسحت بيدك المملوءة بالرحمة قبل المال همومهم، وأزلت بالعطف كروبهم، وسهلت للخير دروبهم فشعروا بالأمان واطمأنت قلوبهم فبقي أثرها عليهم وخيرها في يديهم، فكنت سببًا بعد الله -تعالى- في ذلك؛ فسيبقى الأثر -بإذن الله تعالى-.
قال أحمد بن عبد الحميد الحارثي: "ما رأيت أحسن خلقًا من الحسين اللؤلؤي، كان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه" (سير أعلام النبلاء 10 / 544).
أو جعلك الله سببًا في تخفيف ألم عن مريض وجبر عجزه، ودفع يأسه، فرفعت حزنًا عن أسرة كاملة فتغير مصيرها فعاد يسعى من جديدٍ، وعادت البسمة تعلو شفاه أولاده، والدفء يبسط رداءه عليهم، وساهمت في نفع معظم مِن حولك، ولا تدخر جهدًا عن أحدٍ -بفضل الله تعالى-، فسيبقى أثرها -بإذن الله تعالى-.
قال الإمام إسماعيل بن محمد الأصبهاني في كتابه الحجة في بيان المحجة: "ومِن مذهب أهل السنة: التورع في المآكل والمشارب والمناكح، ثم قال: ومواساة الضعفاء والشفقة على خلق الله، فأهل السنة يعرفون الحق، ويرحمون الخلق، وأئمة أهل السنة والعلم والإيمان فيهم العدل، والرحمة، والعلم، فيريدون للناس الخير".
أو عطفت على طفل أو رأيت شابًا يعيش بيننا تائهًا لا يعرف طريق الحق وفقد العطف من أبوين منصرفين عنه، ومنشغلين بغيره أو ربما جافين فظين، فلمس فيك الصدق وعايش فيك الحب، ووجد معك رقة القلب ورحابة الصدر، ولين الجانب فنبت في قلبه حبك، فغيرت مسار حياته إلى الالتزام بأمر الله، فظل يدعو لك، فسترحل ويبقى أثرها -بإذن الله تعالى-.
أو عودت حيوانًا على الرأفة والرفق به، فتردد على بابك، وكأنه يسأل عنك ويطمئن عليك، فهنيئًا لك الأجر وطيب الأثر حتى بين العجماوات -بإذن الله تعالى-، ولا عجب؛ فكلنا يعلم قصة دخول الجنة للبغي في سقيا الكلب؛ فليحرص كل منا أن يبحث عن أثرٍ يبقى في القلوب والعقول، ويستمر أجره وإن مات صاحبه، إلى يوم الدِّين.
فاللهم ارزقنا عملًا مخلصًا، وذكرًا حسنا في الحياة وبعد الممات، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.